بقلم د. هشام القروي

يصدر باللغتين العربية والإنجليزية

ملخص:

يقدم الكتاب استكشافًا متعمقًا لحركة حماس، منظمة المقاومة الإسلامية الفلسطينية، متتبعًا تاريخها منذ نشأتها في عام 1987 وحتى يومنا هذا. تشكلت حماس في سياق الانتفاضة الأولى، وبرزت حماس كقوة مهمة في المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، متجذرة في أيديولوجية الإسلام السياسي والسعي إلى التحرر الوطني. وفي حين صنفت إسرائيل والعديد من الدول الغربية حماس كمنظمة إرهابية، إلا أن هناك وجهة نظر مختلفة تسود بين أكثر من مليار مسلم في جميع أنحاء العالم، الذين ينظرون إلى حماس على أنها جماعة تحرر وطني مشروعة. ويدعم هذا التفسير القانون الدولي، ولا سيما الأمم المتحدة التي تعترف بحق الشعوب المضطهدة في مقاومة الاحتلال، بما في ذلك من خلال الكفاح المسلح.

يتناول هذا الكتاب حركة حماس ليس بوصفها مجرد منظمة مسلحة، بل بوصفها حركة اجتماعية سياسية متجذرة في النضال الفلسطيني من أجل تقرير المصير. ويتصدى الكاتب لتحليل تطورها، من حركة إسلامية شعبية إلى قوة سياسية كبرى تحكم قطاع غزة، في علاقة باستراتيجياتها العسكرية والسياسية على حد سواء، والدور الذي تلعبه على الساحة الوطنية الفلسطينية.

ومن الجوانب المهمة في هذه الدراسة التوتر القائم بين التصنيف العالمي لحماس كمنظمة “إرهابية”، حسب زعمهم، وبين النظرة إلى شرعيتها داخل العالم الإسلامي. يستكشف الكتاب كيف يشكل النظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة وحلفاؤها، الرواية المتعلقة بحماس، وغالبًا ما يهمش القضايا الأوسع نطاقًا ذات الصلة بالاحتلال والمقاومة والقانون الدولي. و يدقق الكاتب في دعم الولايات المتحدة غير المشروط لإسرائيل، على الرغم من إدانة أفعالها من قبل هيئات دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية، كمثال على كيفية تطبيق القانون الدولي بشكل انتقائي في كثير من الأحيان.

يجادل الكاتب بأن الكيان ”الإرهابي“ الحقيقي بالنسبة للشعب الفلسطيني هو الاحتلال الإسرائيلي نفسه. وبالاستناد إلى أوجه الشبه مع حركات التحرر الوطني التاريخية مثل جبهة التحرير الوطني الجزائرية، و الحزب الدستوري في تونس (قبل الاستقلال) ، وحزب الاستقلال في المغرب، تضع الدراسة حركة حماس في إطار تاريخي وسياسي أوسع. وقد وُصفت هذه الحركات أيضًا من طرف السلطات الاستعمارية “بالإرهاب”، في حين أنها بطلة المعركة من أجل الاستقلال.

إن القضية الأساسية التي يدور حولها الصراع هي احتلال الأرض الفلسطينية. وطالما استمر الاحتلال الإسرائيلي، ستستمر المقاومة بشكل من الأشكال، وسيظل السلام بعيد المنال. يؤكد الكتاب أن حماس، مثلها مثل منظمات التحرر الأخرى عبر التاريخ، تحركها الرغبة الإنسانية الأساسية في الحرية وتقرير المصير. وإلى أن يتمكن الفلسطينيون من تحرير أرضهم، ستستمر المقاومة.

 

 مقدمة عن حماس: النشأة والأيديولوجيا

النشأة والإطار التاريخي


اتسم الجزء الأخير من القرن العشرين في الشرق الأوسط باضطرابات كبيرة لعبت دورًا حاسمًا في صعود حماس. ففي خضم الصراعات الإقليمية والتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والسعي الحثيث للتحرر الوطني، ظهرت حماس كرد فعل مباشر على الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وأوجه القصور التي كانت تُرى في الأطر السياسية الفلسطينية القائمة. كانت المبادئ والتطلعات الأساسية لحماس متجذرة بعمق في السعي إلى تحقيق الحكم الذاتي الفلسطيني، وإعطاء الأولوية لمقاومة الاحتلال وإقامة دولة إسلامية.

وكان في صلب التطور الإيديولوجي لحماس قادة روحيون مؤثرون كان لتوجيهاتهم وتعاليمهم الدينية دور أساسي في تحفيز قاعدة الحركة. ومن خلال قيادتهم الكاريزمية، غرست هذه الشخصيات إحساسًا عميقًا بالهدف والالتزام الثابت بين أتباعهم، مما عزز هوية متماسكة ترتكز على مبادئ الإيمان والمقاومة والشهادة.

 

الميثاق الفكري وتطوره


حدد ميثاق حركة حماس – وهو وثيقة أساسية – الموقف الأيديولوجي والأهداف السياسية للمنظمة. وقد مزج هذا الميثاق بين الحماسة الدينية والتطلعات الوطنية، وتصور مجتمع فلسطيني إسلامي والدعوة إلى الكفاح المسلح كوسيلة لاستعادة الأراضي المغتصبة من السيطرة الإسرائيلية. وقد شكّل هذا التمازج بين الحماسة الدينية والحماسة القومية حجر الأساس لأيديولوجية حماس، وكان بمثابة دعوة موحدة لأنصارها.

وقد شهد التطور التنظيمي لحماس انتقالاً من دورها الأول ككيان للرعاية الاجتماعية إلى حركة شاملة تضم فروعاً سياسية وعسكرية واجتماعية. وعزز هذا التنويع من نفوذها، وسمح لها بتوفير الخدمات الأساسية للفلسطينيين، وبالتالي توسيع نطاق جاذبيتها وتوطيد قاعدة مؤيديها.

وساهمت الديناميات الاقتصادية والاجتماعية في تعزيز صعود حماس. فمن خلال تلبية احتياجات المجتمعات المهمشة وتوفير الشعور بالتمكين، حصلت الحركة على دعم شعبي كبير. وقد كان لمعارضة الحركة الثابتة للاحتلال الإسرائيلي صدى عميق داخل المجتمع الفلسطيني، لا سيما في مراحلها الأولى.

 

الديناميات الإقليمية والعالمية

أثّر المشهد الإقليمي والدولي أيضًا بشكل كبير على الاعتراف بحماس وتطورها. فقد أصبحت الحركة هدفا للمكائد الجيوسياسية الأوسع نطاقًا في الشرق الأوسط، حيث ساهمت التوترات الإقليمية والصراعات على السلطة والتدخلات الدولية في تشكيل تصورها ومكانتها على الساحة العالمية.
ولعبت شخصيات بارزة داخل حماس، بما في ذلك مؤسسوها وقادتها الرئيسيون، أدوارًا محورية في إنشاء الحركة وتوطيدها. وكان لتفانيهم الثابت وحنكتهم الاستراتيجية دورٌ حاسم في ترسيخ مكانة حماس ككيانٍ هائل في سياق السياسة والمقاومة الفلسطينية.

 

التصور العام والروح التنظيمية

تباينت النظرة العامة الأولية لحماس بشكل كبير بين مختلف شرائح المجتمع، متأثرةً بعوامل مثل التجارب الشخصية والخلفيات الثقافية والمنظورات الأيديولوجية. كما ساهمت الصور التي تقدمها وسائل الإعلام والأحداث الإقليمية والاصطفافات الجيوسياسية في تشكيل الرأي العام، مما ساهم في استقبال حماس المعقد والمتعدد الأوجه في السياقين الفلسطيني والدولي على حد سواء.


العقائد والتطلعات التأسيسية


إن حجر الأساس لرسالة حماس متجذر بعمق في عقائدها وتطلعاتها التأسيسية، وهو بمثابة نواة لأيديولوجيتها وعملياتها. ومن الأمور المحورية في روح حماس الالتزام القوي بالقومية الفلسطينية والتطلع إلى تحرير الأراضي الوطنية من السيطرة الإسرائيلية وإقامة دولة مستقلة.

وترتبط المبادئ الأساسية للحركة ارتباطًا وثيقًا بأهدافها الأوسع نطاقًا التي تشمل أبعادًا سياسية واجتماعية ودينية. وتشمل هذه الأهداف الحفاظ على الهوية الفلسطينية، والرفض القاطع للاحتلال الإسرائيلي، وتعزيز القيم الإسلامية داخل المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، تكرس حماس جهودها لاستعادة الحقوق الفلسطينية، بما في ذلك حق اللاجئين في العودة وحق تقرير المصير.


الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والحكم الرشيد

تسعى حماس، بالإضافة إلى أهدافها الوطنية، إلى تلبية الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين، ولا سيما أولئك الذين يعيشون في المجتمعات الفقيرة والمهمشة. ومن خلال توفير الخدمات الاجتماعية الحيوية مثل التعليم والرعاية الصحية والمساعدات الاجتماعية، نجحت حماس في كسب دعم وولاء كبيرين في أوساط السكان. وقد مكّن هذا النهج الشمولي الحركة من ترسيخ وجود كبير داخل المجتمع الفلسطيني، يتجاوز مجرد أنشطة المقاومة.

وعلاوة على ذلك، تلتزم حماس بمكافحة الفساد والظلم، متعهدةً بالتمسك بالعدالة والإنصاف داخل هياكل الحكم والمجتمع ككل. وتشمل أهداف الحركة أيضًا بُعدًا روحيًا يركز على الإسلام كقوة موجهة في السلوك الشخصي والشؤون العامة على حد سواء. تهدف حركة حماس إلى تعزيز مجتمع متجذر بعمق في المبادئ الإسلامية، والدعوة إلى المعايير الأخلاقية والمعنوية.

الرؤية الشاملة

تعكس الرؤية الشاملة لحماس، كما هي مكرسة في مبادئها وأهدافها التأسيسية، تفاعلاً معقداً بين الوطنية والرعاية الاجتماعية والمثل الدينية والسعي الدؤوب لتحقيق العدالة. وقد صاغت هذه الرؤية استراتيجيات الحركة وأفعالها بشكل عميق، مما أدى إلى استمرار تأثيرها في المجتمع الفلسطيني والسياق الجيوسياسي الأوسع.

القيادة الروحية والتأثير الروحي داخل حماس

لقد تأثرت حماس طوال تاريخها تأثراً عميقاً بقيادتها الروحية التي تلعب دوراً محورياً في تشكيل أسسها الأيديولوجية وتوجيه مبادئها التوجيهية. وهذه القيادة الروحية متجذرة بعمق في العقيدة الإسلامية، وهي مستمدة من التفاسير التاريخية للإسلام ومن العلوم الدينية المعاصرة. ويتغلغل هذا التأثير في طموحات الحركة ونهجها التكتيكي وعمليات صنع القرار فيها، إلى جانب تفاعلاتها مع أنصارها وخصومها على حد سواء.

فالسلطة الدينية داخل حماس تتمتع بنفوذ كبير، حيث يشكل الاجتهاد الديني والخبرة الدينية جزءًا لا يتجزأ من هوية الحركة وتماسكها. ويتألف إطار القيادة الروحية داخل حماس من مجموعة من علماء الدين ورجال الدين والمربين الذين يقدمون التفسير الفقهي والتوجيه الأخلاقي لأتباع الحركة وأنصارها. وغالبًا ما تتمتع هذه الشخصيات بنفوذ كبير على الأعضاء العاديين في الحركة، حيث تقوم بتشكيل فهمهم للمسؤوليات الدينية وإدماج الإيمان في سياق المقاومة والتحرر. ويغرس هذا الإرشاد الروحي إحساسًا عميقًا بالواجب الديني والتفاني في نفوس أعضاء حماس، مما يقوي عزيمتهم في خضم المحن ويحافظ على معنوياتهم في ظل التحديات.

وعلاوة على ذلك، يمتد التوجيه الروحي إلى ما هو أبعد من مجرد الفتاوى الدينية، حيث يتخلل مختلف أبعاد عمليات حماس وإدارتها. فهو يوجّه نهج الحركة في مجال الرعاية الاجتماعية والعدالة والتخفيف من حدة الصراعات، مع التأكيد على أهمية التواصل الرحيم والمساءلة الأخلاقية. ويشكل هذا الإطار الروحي الأساس الذي تستند إليه حماس في تعاملها مع الشعب الفلسطيني، مما يعزز الشعور المشترك بالوحدة والتضامن القائمين على المبادئ المشتركة والقيم المقدسة.

وبالإضافة إلى كونها مصدر للبصيرة، فإن القيادة الروحية تضفي الشرعية على مساعي حماس السياسية والعسكرية ضمن سياق ديني أوسع. فمن خلال تشبيك الروايات الدينية مع النضال من أجل تقرير المصير والمقاومة ضد القهر، تعزز القيادات الروحية التبرير الأخلاقي لأفعال حماس،وبالتالي كسب الدعم بين الأتباع والمتعاطفين الذين يرون الحركة تجسيداً للمقاومة الصالحة والتأييد الإلهي.

تؤكد العلاقة المعقدة بين القيادة الروحية والنفوذ على التأثير الكبير للديناميكيات الدينية على الروح التنظيمية لحماس والوسط الفلسطيني الأوسع. وبالتالي، فإن استكشاف هذه الأبعاد أمرٌ بالغ الأهمية لفهم دوافع حماس واستراتيجياتها وقدرتها على الصمود كقوة اجتماعية وسياسية ترتكز على القناعات الدينية والتطلعات إلى العدالة.

ميثاق حماس: تحليل العقيدة

يمثل ميثاق حماس وثيقة تأسيسية تحدد المبادئ الأساسية للحركة وأهدافها واستراتيجياتها. ولا تكمن أهميته في توفير إطار لفهم الأسس الأيديولوجية لحركة حماس فحسب، بل تكمن أهميته أيضًا في تشكيل ممارساتها العملياتية ومواقفها السياسية. ويكشف تحليل الميثاق عن نهج متعدد الجوانب تتشابك فيه العقائد الدينية مع الطموحات الوطنية، مما يرسخ حماس ككيان فريد ضمن الطيف السياسي الفلسطيني.

وتتوخى الوثيقة تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة إسلامية، واضعةً هذا النضال في إطار فريضة دينية وقضية وطنية في آن واحد. ويؤكد الميثاق على مركزية الإسلام في تحديد هوية الشعب الفلسطيني وارتباطه التاريخي بالأرض، مستدعياً رواية يتردد صداها بعمق على الصعيد الشعبي في العالم الإسلامي الأوسع.

وعلاوةً على ذلك، يعبّر الميثاق عن رفض حماس لشرعية دولة إسرائيل والتزامها بالمقاومة المسلحة كوسيلة لاستعادة الأراضي الفلسطينية. ومن خلال تعداد شامل للجور التاريخي والمظالم التي عانى منها الفلسطينيون، يسعى الميثاق إلى تبرير استخدام القوة والمقاومة كتدابير ضرورية في السعي للتحرير. وغالباً ما كان هذا الموقف الثابت مسألة خلافية في الخطاب الدولي، مما أدى إلى نقاشات استقطابية حول تكتيكات حماس والآثار الأخلاقية المترتبة على أساليبها.

كما يسلط الميثاق الضوء على أجندة حماس الاجتماعية والإنسانية، مؤكداً على جهود الحركة في الاهتمام بالرعاية الاجتماعية للفلسطينيين من خلال برامج الرعاية الاجتماعية الشاملة ومبادرات التنمية المجتمعية. يسلط هذا الجانب من الميثاق الضوء على الطبيعة متعددة الأوجه لحماس، ويسلط الضوء على دورها كمقدم للخدمات الأساسية وعامل استقرار للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في ظل الصراع والمحن التي طال أمدها.

ويوفر الفحص النقدي لميثاق حماس فهماً دقيقاً للإطار الأيديولوجي للحركة ويوضح التعقيدات الكامنة في أعمالها السياسية والعسكرية. ومن خلال الخوض في تعقيدات عقيدتها، يمكن للباحثين وصانعي السياسات أن يكتسبوا رؤىً قيّمة حول الدوافع والتطلعات التي تحرك حماس كطرف محوري في سعي الفلسطينيين لتقرير المصير.

الأسس الأيديولوجية: الدين والقومية

إن الجذور الأيديولوجية لحركة حماس تنغرس بعمق في التقاطع بين الدين والقومية، مما يشكل نظرة الحركة للعالم ويوجه مبادئها. ومن الأمور المركزية في أيديولوجيتها المزج بين الدين الإسلامي والنضال الوطني الفلسطيني من أجل التحرر وتقرير المصير. وقد شكّل هذا التوليف إطارًا مميزًا يُلهم معتقدات حماس واستراتيجياتها وأفعالها.

ويلعب الدين دورًا أساسيًا في تشكيل أيديولوجية حماس، حيث تعتمد الحركة على التعاليم الإسلامية لتبرير مقاومتها ضد الاحتلال والقمع المتصور. وتفسر الحركة مفهوم الجهاد على أنه مسعى روحي شخصي وواجب جماعي للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني وكرامته. وكثيرًا ما يتم الاستشهاد بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية لإضفاء الشرعية الدينية على جهود المقاومة التي تبذلها حماس، ووضع النضال في إطار الرواية الإسلامية للعدالة ومعارضة الطغيان.

وتشكّل القومية أيضًا جانبًا بارزًا من جوانب الإطار الأيديولوجي لحماس، حيث تؤكد على المكونات الثقافية والتاريخية والإقليمية للهوية الفلسطينية. تتبنى الحركة رؤية الوطن الفلسطيني الموحد، وتدمج الروايات والرموز التاريخية لتعزيز الشعور بالوحدة الوطنية والصمود. وتهدف حماس، من خلال تداخل الإيمان الديني مع الوطنية الفلسطينية، إلى حشد الدعم الشعبي وزرع وعي جماعي متجذر في التطلعات الروحية والأرضية على حد سواء.

ويؤثر هذا الدمج بين الدين والقومية بشكل كبير على أجندة حماس السياسية ومشاركتها. فهو يشكّل مقاربة الحركة للحكم والرعاية الاجتماعية والتعبئة الشعبية، ويضفي على هذه المجالات حساً بالواجب الديني والهدف الوطني. بالإضافة إلى ذلك، يؤثر ذلك على تفاعلات حماس مع الكيانات السياسية الأخرى، حيث تعمل أيديولوجية الحركة كعدسة لتفسير الديناميكيات الإقليمية والدولية وتسييرها.

إن الأساس الأيديولوجي للدين والقومية لم يوجّه المسار التاريخي لحماس فحسب، بل لا يزال يشكل سياساتها ومبادراتها المعاصرة. إن فهم التفاعل المتشابك بين الدين والهوية والنضال السياسي ضروري لفهم الطبيعة متعددة الأوجه لحماس كحركة اجتماعية سياسية ضمن السياق الأوسع للسعي الفلسطيني لتقرير المصير وإقامة الدولة.

التطور المبكر والهيكل التنظيمي

شهدت حماس، التي نشأت في أواخر ثمانينات القرن الماضي كفرع من فروع جماعة الإخوان المسلمين، عملية تطور عميقة خلال مرحلة النشأة. في البداية، عملت كشبكة سرية، حيث روجت لأيديولوجيتها وحشدت الدعم بين السكان المحليين من خلال المساعي الشعبية. واتسمت هذه المرحلة الأولية بهيكلية لا مركزية، مع وجود العديد من الخلايا واللجان التي تعمل بشكل مستقل في مختلف المناطق. وقد مكّن التركيز على السرية والتقسيم حركة حماس من المناورة بمهارة داخل البيئة السياسية المعقدة والمتقلبة في الأراضي المحتلة، وفي الوقت نفسه مراوغة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.

ومع تنامي نفوذها، تحوّلت حماس إلى كيان أكثر مركزية، مدفوعةً بضرورة التماسك والتوحيد الاستراتيجي في مواجهة احتدام الصراع مع القوات الإسرائيلية والتعقيدات الناشئة في الحكم. واستلزمت هذه المركزية توطيد سلطة صنع القرار داخل هيكلية قيادية هرمية، حيث لعبت شخصيات مؤثرة كالشيخ ياسين وعبد العزيز الرنتيسي دوراً أساسياً في توجيه النموذج العملياتي للحركة وإضفاء الطابع الرسمي عليه.

وفي الوقت نفسه، سعت حماس إلى دمج مشاريعها شبه العسكرية مع التزام متزايد بالرعاية الاجتماعية والحكم المدني. وأدى هذا التركيز المزدوج إلى إنشاء مؤسسات وهيئات مختلفة مكرسة لتوفير الخدمات الأساسية للشعب الفلسطيني، وبالتالي ترسيخ دور حماس ليس كفصيل مقاوم فحسب، بل كتنظيم مجتمعي وسياسي شامل. وعكس التغيير في الإطار التنظيمي لحماس تحولها الأوسع نطاقًا من جماعة مقاومة سرية إلى طرف سياسي بارز داخل المجتمع الفلسطيني. ويبرز هذا التحول التحديات الدقيقة والتكيفات الاستراتيجية التي خاضتها حماس في خضم الديناميات المعقدة للصراع الإقليمي والحكم الداخلي والتصور العالمي. إن فهم التطور المبكر لحماس وهيكلها التنظيمي أمر محوري لفهم مسارها اللاحق وتأثيرها الدائم داخل الأراضي الفلسطينية.

العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي ساهمت في صعود الحركة

ساهمت عدة عوامل اجتماعية واقتصادية في صعود حماس كحركة سياسية ومقاومة هائلة داخل المجتمع الفلسطيني. ويشكل الشعور السائد بالتهميش والحرمان من الحقوق الذي يعاني منه الفلسطينيون، ولا سيما أولئك الذين يقيمون في مخيمات اللاجئين والمجتمعات المهمشة، حجر الزاوية في فهم صعود حماس. فقد خلق الغياب الصارخ للفرص الاقتصادية المقترن بغياب الفاعلية السياسية أرضًا خصبة لازدهار الحركات الشعبية التي تلبي مظالم وتطلعات السكان المحرومين.

وأدى عدم فعالية الكيانات السياسية السابقة في تحسين المحن الاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين إلى خيبة أمل واسعة النطاق من القيادة القائمة، مما أدى إلى البحث عن حلول بديلة. بالإضافة إلى ذلك، أدى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي طال أمده إلى تفاقم الإحباط وزرع رغبة عميقة في التغيير بين الجماهير.

في هذا السياق، مهّد المشهد الاجتماعي-الاقتصادي في الأراضي المحتلة – الذي اتسم بارتفاع معدلات البطالة وعدم كفاية الخدمات الحيوية والظروف المعيشية المتقشفة – الطريق لظهور مبادرات اجتماعية ورعاية اجتماعية تقودها حماس. ومن خلال تقديم الخدمات الاجتماعية الضرورية والمساعدات المنهجية، حصلت حماس على دعم كبير وشرعية في أوساط شرائح من السكان الذين اعتبروا الحركة بمثابة مزوّد إغاثة ملموسة في خضم معاناتهم اليومية.

علاوةً على ذلك، أثّرت المفاعيل الخارجية، بما في ذلك الفوارق الاقتصادية الإقليمية والديناميات الجيوسياسية، تأثيرًا عميقًا على الظروف الاجتماعية والاقتصادية داخل المناطق الفلسطينية، مما كان له مفعوله بالنسبة لمسار النمو والجاذبية الشعبية لحركة حماس. وساهم التفاعل بين صراعات القوى الإقليمية والتدخلات الدولية بشكل كبير في تشكيل السياق الاجتماعي-الاقتصادي الذي دعم صعود حماس، مما أضفى على رسائل الحركة ومبادراتها جاذبيةً ذات صدىً كبير.

وباختصار، فإن العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي ساهمت في صعود حماس متعددة الأوجه ومتداخلة بعمق مع التجارب التاريخية والحياتية للشعب الفلسطيني. فالفهم الدقيق لهذه العوامل ضروري لفهم البيئة التي نشأت فيها حماس وعززت قاعدة دعمها، وساهمت في تعزيز قاعدتها الشعبية وتجاوزت المشهد الاجتماعي السياسي المعقد في المنطقة.

الديناميات السياسية الإقليمية والعالمية

يرتبط تطور حركة حماس ككيان مقاوم داخل الأراضي الفلسطينية ارتباطًا وثيقًا بطيف واسع من الديناميات السياسية الإقليمية والعالمية. فقد وفرت الجغرافيا السياسية المعقدة في الشرق الأوسط، المليئة بالنزاعات التاريخية والصراعات على السلطة، خلفية مواتية لظهور حماس وانتشارها. فالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني الدائم، المتشابك مع التوترات الإقليمية الأوسع وديناميات القوة في المنطقة، شكّل مسار حماس وأهدافها بشكل عميق.

وقد تأثّر موقف الحركة الإيديولوجي ومساعيها الاستراتيجية بشكل كبير بالتحالفات المتغيرة والمصالح الجيوسياسية التي تميز الشرق الأوسط. فقد كان للصراع العربي-الإسرائيلي، المدعوم بالمظالم التاريخية عميقة الجذور والنزاعات الإقليمية، تأثير كبير على المشهد السياسي الإقليمي، مما جعل حماس لاعباً محورياً. وجعل الموقع الاستراتيجي للأراضي الفلسطينية في نقطة التقاء خطوط الصدع الإقليمية المتعددة من الأراضي الفلسطينية نقطة محورية للاهتمام والتدخل الدوليين، مما زاد من حظوظ حماس السياسية.

بالإضافة إلى ذلك، ساهم السياق الجيوسياسي العالمي، ولا سيما أدوار القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، في تشكيل الرواية الدولية المحيطة بحماس. إن الانقسام المتمثل في تصنيف حماس كجماعة “إرهابية” من قبل بعض الدول، في حين تعتبرها دول أخرى حركة مقاومة شرعية، يلخص وجهات النظر الجيوسياسية المتباينة التي حددت الاستجابة العالمية لحماس. وأدى التفاعل بين سياسات القوة العالمية و”أمننة الإرهاب” إلى زيادة تعقيد الديناميات السياسية فيما يخص حماس وتفاعلاتها مع المجتمع الدولي.

وعلاوة على ذلك، أثرت الديناميات الأوسع داخل العالم الإسلامي، بما في ذلك صعود حركات الإسلام السياسي وأصداء الانتفاضات الإقليمية، تأثيرًا كبيرًا على مكانة حماس وتصورها على الساحة العالمية.

وفي الجوهر، تشكل الديناميات السياسية الإقليمية والعالمية التي تحيط بحماس بعدًا حاسمًا في تحديد نشأة الحركة وتطورها وتأثيرها. فمن خلال الخوض في الشبكة المعقدة من المصالح الجيوسياسية والتحالفات والصراعات الجيوسياسية يمكن للمرء أن يستنبط رؤى أعمق في الطابع متعدد الأوجه لحماس ككيان سياسي مؤثر في الساحة الدبلوماسية العالمية.

الشخصيات الرئيسية والرواد

يقتصر اهتمامنا هنا على الشخصيات المؤثرة التي حفرت مساهماتها في سجلات حركة التحرير الفلسطينية. ويأتي في مقدمتهم الشيخ أحمد ياسين الذي يحظى بالتبجيل لدوره في تأسيس الحركة عام 1987. وقد لعبت كاريزما ياسين الجذابة، إلى جانب حنكته الدينية، دورًا أساسيًا في حشد الدعم القوي وتحفيز الجماهير. ومع ذلك، لم يقتصر تأثيره على المجال الروحي؛ فقد كان مهندسًا أساسيًا لحماس في خططها السياسية والعسكرية.

ومن أبرز الشخصيات الأخرى في تاريخ حماس عبد العزيز الرنتيسي. وبصفته أحد مؤسسي الحركة، كانت مساعي الرنتيسي في نشر التنظيم، لا سيما في غزة، هائلة. فقد امتد رصيده إلى التوجيه الأيديولوجي، والقيادة الهيكلية، والدعوة المتحمسة للمقاومة المسلحة. وقد حفز تفاني الرنتيسي الذي لا يتزعزع أنصاره وعزز معارضة حماس الحازمة للاحتلال الإسرائيلي، مما دعم مكانته كقائد محوري.

وبرز خالد مشعل بعد ذلك كشخصية بارزة، حيث قاد حماس ببراعة خلال المراحل الحرجة التي مرت بها الحركة. وساهمت حنكته الاستراتيجية وبراعته الدبلوماسية في إبراز حماس على الساحة العالمية، حيث أقام تحالفات مع جهات دولية فاعلة وتجاوز بمهارة التضاريس الجيوسياسية المعقدة. وتحت إشراف مشعل، تطورت حماس إلى كيان سياسي هائل، متجاوزاً الحدود الإقليمية لمناصرة القضية الفلسطينية على المستوى الدولي. وأكد دوره الفعال في التفاوض على اتفاقات وقف إطلاق النار والمعاهدات على قدرة حماس على الدبلوماسية البراغماتية مع التمسك بمبادئها الأساسية.

وبالإضافة إلى هذه الشخصيات البارزة، فإن إسهامات الرواد الأقل شهرة مثل محمود الزهار وإسماعيل هنية، ومؤخرا يحي السنوار، ذات أهمية قصوى. فقد لعب كل منهم دورًا محوريًا، مستفيدين من كفاءاتهم الفريدة من نوعها في النهوض بأجندة حماس متعددة الأوجه. ويجسد هؤلاء القادة بشكل جماعي المرونة والحماسة الأيديولوجية والقدرة على الضرب الموجع، والتكيف التي أصبحت من السمات المميزة لقيادة حماس.

وتلقي قصص هذه الشخصيات الرئيسية الضوء على التشابك المعقد للديناميكية الفردية والزخم الجماعي. إن تأثيرهم حيوي لفهم التطور الدقيق لحركة حماس، وكاشف للقوى المتنوعة التي شكلت وقولبت النضال الفلسطيني.

التصور والدعم الشعبي الأولي

قوبل صعود حماس في الوسط السياسي الفلسطيني بفسيفساء من ردود الفعل في الأوساط المحلية والدولية. في البداية، حظيت الحركة بتأييد كبير من قطاعات شعبية أعجبت بمعارضتها الصلبة للاحتلال الإسرائيلي مقارنة مع عدم فعالية الفصائل السياسية السائدة. ومن خلال تقديم نفسها كمدافع قوي عن الحقوق الفلسطينية، لاقت حماس صدى لدى أولئك الذين خاب أملهم بسبب ركود مساعي إقامة الدولة الفلسطينية والإحباط من المساعي الدبلوماسية الفاترة.

وعلى العكس من ذلك، أثار خطاب الحركة الراديكالي وتكتيكاتها المتشددة مخاوف بعض قطاعات السلطة الفلسطينية التي قبلت التنازل عن الأرض مقابل لا شيء و”الحلول المؤقتة” التي تدوم وتديم السيطرة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، فضلا عن ارتعاب الدول الغربية الداعمة للاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة. وكانت المخاوف واضحة بشكل خاص فيما يتعلق بالمرتكزات الدينية المعلنة لحماس وموقفها المتصلب ضد إسرائيل. وزادت الصور المتباينة التي قدمتها وسائل الإعلام الإقليمية والعالمية من تعقيد التصور العام للحركة، ونسجت نسيجاً معقداً من التفسيرات والأحكام.

ومما زاد من حدة هذا التباين في المشاعر العامة هو التكتيكات العملياتية التي تتبعها حماس، وتحديداً اعتمادها على المقاومة المسلحة والعنف المستهدف. فقد أشاد المؤيدون بهذه الأعمال باعتبارها ضرورية في النضال من أجل التحرير، في حين أدانها المنتقدون – الغرب و بعض العرب المطبّعين مع إسرائيل – باعتبارها تؤدي إلى “نتائج عكسية” في ظل حكم اليمين المتطرف الذي لم يكن يحتاج إلى حماس في الواقع ليقوض احتمالات التعايش السلمي. وقد أدت هذه الازدواجية في التصورات إلى تضخيم الأثر الاستقطابي لوجود حماس، وتعميق التصدعات المجتمعية وتأطير استقبالها على الساحة الدولية.

كما كان الاستقبال العالمي لحماس متعدد الأوجه بنفس القدر، حيث أبدت الدول والمنظمات مجموعة من الردود التي تراوحت بين التأييد والإدانة. وأثّر هذا البعد الدولي على كيفية تصوير حماس في الحوارات الدبلوماسية والنقاشات السياسية وخطابات حقوق الإنسان، مما زاد من تلوين صورتها العامة.

وفي خضم هذا الترابط المعقد من التأييد والمعارضة، تجلت الفروق الدقيقة في التصور العام والدعم لحماس في طبقات متعددة. وبينما كانت المنظمة تناور من خلال هذه التعقيدات، واجه سعيها للحصول على الشرعية والتأييد تحديات وفرصًا لا حصر لها. إن فك رموز الطبقات المتباينة من التأييد والتشكيك يسلط الضوء على الطبيعة المتاهية التي اتسم بها استقبال حماس في بداياتها، وتأثيرها الدائم على رواية التحرير الفلسطينية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *